جاري التحميل ....
Adds
single-post

عبدالله باعامر .. وزير التموين الذي خذله وطنه

23/07/2019

 عبدالله باعامر .. وزير التموين الذي خذله وطنه ..!

كتب / محمد العولقي /  حضرموت سبورت

قبل 31 عاما ثكلت ملاعب الجنوب الداهية (عبدالله باعامر)، اعتزل القائد الخارق، كسفت شمسه، أفلت أقماره، ترك فراغا قاتلا في ملاعب المتعة ، رحل دون ورثة، ودون خليفة ..

 ولد (عبدالله باعامر) عملاقا، كان الجمهور الجنوبي مشغولا بتلك اللآلئ التي ترصع صدر الأندية العدنية الكبيرة مع بداية السبعينيات ..

  كانت مساحة الأضواء حكرا على الفنان عوضين الوتر الذي يسمعك أحلى رنين مع الهلال ، وكانت عناوين الدهشة من نصيب عزيز سالم و سعيد دعاله وجميل سيف والهرر وجلاب وعزيز عبدالرحمن ومحمد شرف ومحمد جعبل

  فجأة أشرقت شمس (عبدالله باعامر)، اغشت عيون كل تلك النجوم الذهبية المتألقة، وغطت أشعتها تلك الرقعة الجغرافية، ببرها وبحرها ومياهها الجوفية

  في أمسية كروية ساخنة من العام 1974 جلس مدرب روسي في ملعب (بارادم) بالمكلا يمتع ناظريه بظاهرة كروية مدهشة، لم يسبق أن رآها أو عاش تفاصيلها في بلاده ..

  عض ذلك المدرب شفتيه وهو يشاهد (باعامر) وحده يهتك عرض شباك فريقه أربع مرات متتالية ، ثم صرخ بأعلى صوته :

هذا اللاعب ظاهرة لا تتكرر ، إنه عبقري جعل لاعبينا يعيشون في قبعة سحره، ووضع أعصابي على صفيح ساخن ..

  وكان لابد لهذا المدرب أن يحتسي الكثير من المانشتات الصاخبة ، كان عليه في نهاية رحلة فريقه أن يمضغ تلك الاعترافات وأن يوشي بها ، ويستأنس بها، كانت اعترافاته في ذلك الوقت قنبلة صوتية انفجرت ليصل صداها إلى كل بيت ..

  سألوا المدرب الروسي بعد رحلة إلى الجنوب، نسف فيها  فريقه (الروسي) منتخبي عدن ولحج، عن رأيه في لاعبي الجنوب ..؟

  رد المدرب بسرعة : ليس هناك من يستحق النجومية الدولية سوى لاعب حضرمي صغير اسمه (عبدالله باعامر) ، لقد تلاعب بنا وسخر من مدافعينا، كان سما زعافا بالنسبة لنا ..

  ثم قطب المدرب الروسي حاجبيه عندما عرف أن (باعامر) ليس دوليا بعد، ولم يسمع به أحد، معلقا :

  مستحيل .. هذا المهاجم الفذ البارع يجب أن يكون الشمس الذي تدور حوله الكواكب الأخرى ..

 عاد المدرب وهو يمص شفتيه ضاربا أخماسا في أسداس ، وهو يضيف بأسف :

  هذا اللاعب الساحر صاحب عقلية ناضجة ، تفكيره يأكل عقله كما يأكل المهند غمده، ومادام ليس دوليا بعد فهو إذن جوهرة بيد فحام ..

 هنا فقط لوى الفنيون والتقنيون في عدن - والتي كانت عاصمة للرياضة في الجزيرة والخليج- أعناقهم نحو ذلك الفتى القصير المكتنز العضلات، والذي تزين ذراعه شارة أشبه بالوردة ، وفتحت عدن أبوابها وصهاريجها أمام هذا الفنان الذي تتكلم قدماه دانا حضرميا شجيا ..

 تسابقت أندية عدن للظفر بتلك التحفة الحضرمية التي كانت من أحلى التحف وأغلاها فنا وطربا ، لكن (باعامر)  الصغير الباحث عن الشهرة والعلم تحت أضواء المدينة المفتوحة، اختار (الهلال)  ليعرض فيه الكثير من فقرات سيركه الرفيع  وسحره البديع..

  وانتقلت النجومية من تلك الأطياف إلى مجرة (عبدالله باعامر)، مجرة كروية تمتص كل ألوان الطيف فتتلألأ، ثم تغشي الأبصار ..

  دون المرور على نيازك الفئات العمرية ، أطلق (باعامر)  صاروخ مواهبه الخارقة حاملا قمرا حضرميا يؤسس ويؤرشف لرحلة طويلة من التألق في رحاب نجوم كروية لن تتكرر ، بعدها مشى على سطح القمر وفي يمينه عطاياه وفي يساره ضحاياه ..

  أهدى نادي (وحدة عدن) شهدا دوعنيا صافيا مصفى ، كان مهندس العمليات في الوسط ، مبرمج الشبكة الخضراء ، الجوجل الذي ينقلك من عالم إلى آخر، التلسكوب الذي يرصد ثم يوزع حلواه الفاخرة في لفافة حضرمية أكلت بالعقول حلاوة ..

  حل ضيفا بعد ذلك على فريق (الجيش) ، فتيتم (الوحدة) بعده ، ونعى حظه العاثر في هجرة نجومه إلى النادي الذي كان تحت قانون الرفاق يتحدث بلغة البلاشفة والمناشفة ..

  في (الجيش) تكفل (باعامر) بصنع المعجزات الكروية الصعبة ، موسمان وهذا الفنان الذي أطرب عدن كلها يعرض لوحاته على ملعب الحبيشي ، يحصد الذهب ويترك الفتات للآخرين ، لم يجرؤ لاعب على منازلته ، جلس جميع اللاعبين يتأملون ذلك النجم السامر فوق مصلى شاطئه حيث ذلك اللول يوجد والصدف ..

 لم يكن حب الجمهور لذلك المطرب الكروي غامضا ، سقط الجميع في شباك عشقه فتحول الى قضية وصال ما تحملها ملف ..

  تمنى بعض اللاعبين من الذين أعياهم السهر عودة (باعامر) إلى عشه الحضرمي ، لينالوا قليلا من الأضواء ، وكان حنين (باعامر) للعودة إلى (أهلي الغيل) جارفا ..

  كلما هزني الشوق لمشاهدة فلتة زمانه، أفتش في جوالي عن تلك اللقطة الخالدة التي ليس لوقعتها كاذبة ، في ذات صائفة مشبعة بالرطوبة والملوحة معا، نصب (عبادي) سيركه الشهير للاعبي شمسان ، جندلهم واحدا تلو الآخر، رقص على سلالم (دو ري مي فاصول) ، ثم تلا على الكرة تمائمه المعهودة ، ثم خذ من فيلم (عبدالله باعامر) مشهدا هتشكوكيا  يحبس الأنفاس من فرط التشويق والإثارة ..

 عبدالله لفرج ، وفرج لعبدالله ، كلاكيت ثان وثالث ورابع كمان ، ووقف الأخوان عبدالله وفرج أمام جبل شمسان (عادل إسماعيل) ، كان عبدالله يصرخ من أعماقه: هيا سجل يا فرج الهدف العائلي ، يرفض فرج هدية العيد قائلا : بل أنت من عليه أن يسجل أيها الحكيم الفنان ، وولد الهدف النموذجي، ثم شقت السماء زغرودة (باعامريه) استوطنت الحناجر ولم تغادرها حتى الآن

   لماذا فشلت الكرة الجنوبية في عملية استنساخ (عبدالله باعامر) ؟

-  لأنه لؤلؤة الوسط الهجومي الذي خرج من المحارة يرقص السامبا، وكأنه طائر من  طيور الكناريا يرقص على شاطئ الكوبا كابانا

 - لأن (عبدالله) اللاعب الوحيد الذي كان يلعب بعقله قبل قدمه ، يعرف كيف يسيطر على أجواء المنافس ، ويعرف كيف يخرج الكرة في المساحات الضيقة، كمن يخرج الشعرة من العجينة ..

  عبدالله باعامر ملك حضرمي من ملوك التمرير الدقيق المحسوب بالمسطرة والبيكار ، لا أحد يمكنه أن يختزل الملعب في تمريرة طويلة تضع المهاجم وجها لوجه مع الحارس سوى (عبدالله باعامر) ، ثم جاء بعده بوقت قصير الأسطورة أبو بكر الماس والملك الأحمدي ..

  كان (باعامر) سخيا في توزيع كراته القاتلة على المهاجمين ، كان يجد متعة في صناعة اللعب وتوجيهه من الخلف، وكأنه وزير تموين مهمته إغراق  السوق بتمريراته الحريرية الراقية ..

  ربما كان (عبدالله باعامر) صاحب أكبر تأثير فردي على فريقه (أهلي الغيل) ، ليست مبالغة عندما كان الفنيون يصفون (عبدالله) بأنه فريق كامل ، إذا حضر اللقاء حضرت معه الفاعلية ، وإذا غاب لظرف طارئ توفي الأهلي بالسكتة (الباعامريه) ..

  امتلك (عبدالله باعامر) ناصية القيادة ، كان اللاعب رقم عشرة بارعا في المناورة السريعة ، ذكي في اتخاذ القرار وفي التسديد على المرمى ، مهارة ، إبداع، صاحب التمرير الفيزيائي الحاسم الدقيق المحسوب بنسبية آينشتاين ، ملك التمرير غير المتوقع ، يفتح وحده كل الدفاعات المغلقة ، يراوغ كما يتنفس ، لا أحد يستطيع انتزاع الكرة من قدمه المغناطيسة ، سيد كل موجهي اللعب بكل جدارة ..

  تبدأ خطورة (عبدالله باعامر) من مخه ، ففي جزء من الثانية يأتي بما لم تأت به الأوائل، يسدد وهو يركض ، يمرر وهو يحفظ إحداثيات زملائه دون أن يرفع رأسه، وكأن له قرون استشعار عن بعد ..

  و (عبدالله) لم يكن يبدد مخزونه البدني في الركض والجري في مشاوير ليس لها لزمة ، فقط يمكنه أن يركض مترا أو مترين فيصنع الفارق وينهي الجدل من أقصر الطرق

  كان (عبدالله باعامر) في النزع الأخير من مسيرته يشعل النار في مؤخرة الصاروخ (سعيد باشطح) ، كان يمرر من خمسين مترا خلف الدفاعات فينسل باشطح بسرعته الخرافية، مرة يصيب وخمس مرات يفشل ..

  في تقديري أن الكرة الجنوبية لم تستغل قدرات هذا القائد الفنان ، لم يكن هناك حافز معنوي يسمح له بأن يقود جيلا شابا بعد وصوله إلى قمة النضج ، تدخلت أنانية المتعصبين للوحدة والتلال في تحويل المنتخب إلى إقطاعية خاصة لا يمكن أن يخترق مجرتها شعاع ضوئي من  (أهلي الغيل) ..

  بصم (باعامر) في مشاركته الأخيرة مع منتخب جمهورية اليمن الديمقراطي على مشاركة جيدة في تصفيات كأس العرب عام 1984 ، كان (عبدالله) هو القائد وهو الدينامو المحرك للفريق الشاب ، استعرض بعضا من لوحاته أمام السودان ، ثم بدأ منتشيا أمام السعودية ، لكن الإصابة تدخلت لتضع حدا فاصلا لرحلة هذا القائد الذي افتقد في هذه التصفيات نصفه الآخر (أبو بكر الماس) ..

  علق عبدالله باعامر حذاءه الدولي في سن الثانية والثلاثين ، وقد كانت الجماهير الجنوبية تعلق عليه آمالا عريضة في قيادة الأزرق في تصفيات كأس العالم 1986 ، لكن (عبدالله) اكتشف أن أجواء المنتخب مسمومه ، ثم شم بأنفه المدرب أمرا دبر بليل ، فاختار التنحي وهو في قمة عطائه الفني ودهائه الكروي

  لم يشفع لباعامر كل تلك الأمجاد التي تحتضن سيرته الذاتية ، لم يضعه وطنه في المكانة التي يستحقها ، كل ما ظفر به ( باعامر) في عهد أوباش الوحدة عضوا هامشيا في لجنة فنية عتيقة، بينها وبين الفكر الكروي ما صنع الحداد ..!